التسامح فعل نبيل اتجاه نفسك قبل الآخر
عزيزي القارئ، هل شعرت يومًا أن حمل الضغينة والغضب يثقل قلبك ويؤرق راحتك؟ هل مررتِ بتجربة تركتك جريح فوجدت نفسك تلوم الآخرين أو حتى نفسك أو القدر؟ كلنا نواجه الإساءة والألم في حياتنا، لكن التسامح هو ذلك المفتاح السحري الذي يمكن أن يحررنا من مرارة الماضي. إنه ليس مجرد تصرف نبيل تجاه الآخرين بل اتجاه نفسك ، وهو خيار واعٍ نتخذه من أجل سلامنا الداخلي وصحتنا النفسية والجسدية. في هذا المقال نفصل في مفهوم التسامح وأهميته، ونستكشف عن مستويات التسامح و هي أن نسامح أنفسنا والآخرين وحتى نسامح الله بمعنى التصالح مع أقدارنا، لننعم بحياة أكثر توازنًا وسعادة.
* ما هو التسامح ولماذا نسامح؟
التسامح هو عملية تحرر نفسي من المشاعر السلبية كالغضب والحقد والاستياء، عندما نسامح، فنحن نقرر بإرادتنا أن نترك الماضي وآلامه، ونتخلى عن الرغبة في المعاقبة أو الانتقام، لا يعني التسامح تبرير الإساءة أو النسيان التام لما حصل، بل يعني التخلي عن عبء المشاعر السامة التي تربطنا بالماضي، إنه هدية لأنفسنا قبل أن يكون للآخرين – هدية نحرر بها قلوبنا ونمنح بها أرواحنا السلام .
تبرز أهمية التسامح في أثره العميق على صحتنا النفسية والجسدية، إن التسامح يعزز الصحة النفسية بشكل ملحوظ عبر تقليل التوتر وتحسين المزاج وزيادة الشعور بالرفاهية النفسيه، إن الأفراد الذين يمارسون التسامح ينتابهم قدر أقل من مشاعر القلق والاكتئاب، ويتمتعون بمستويات أدنى من الإجهاد المزمن، كما أن التسامح يساعد على تقليل الغضب وزيادة الأمل والتفاؤل، مما يحسّن نظرتنا للحياة وجودة نومنا وصحتنا بشكل عام، باختصار نحن نختار أن نسامح لأننا ندرك أن التسامح شفاء للنفس والجسد معًا – فهو يحمي صحتنا العقلية، ويخفف عنا الآلام الجسدية المرتبطة بالتوتر، ويحررنا من سجن المشاعر السلبية التي تقيد سعادتنا، ومن المهم أن نتذكر أن التسامح خيار نابع من القوة لا الضعف، عندما نسامح فنحن لا نضعف أمام من أساء إلينا، بل على العكس تمامًا، نستعيد قوتنا وسيطرتنا على مشاعرنا وحياتنا، نسامح لأننا نريد راحة البال ولأنفسنا الحق في المضي قدمًا دون أن نبقى أسرى لجراح الأمس، هذا القرار الواعي يمنحنا شعورًا بالسلام الداخلي ويمكننا من التمتع بحياتنا بشكل أعمق.
بعد أن فهمنا جوهر التسامح وفوائده، نجد أن له عدة مستويات: على مستوى الذات والتسامح مع الآخرين، والتسامح مع الله (أي التصالح مع ما يقدره الله لنا). في الأقسام التالية سنتناول هذه الجوانب بمزيد من التفصيل، لنرى كيف يمكن لكل منها أن يحسن صحتك النفسية وجودة حياتك.
* التسامح مع الذات
هل تحدثت مع نفسك يومًا بلوم وعتاب قاسٍ حين أخطأت أو فشلت في أمر ما؟ لدينا جميعًا ذلك الصوت الداخلي الناقد الذي يذكرنا بأخطائنا باستمرار، التسامح مع الذات هو أن تتعامل مع نفسك برفق ولطف كما تتعامل مع صديق عزيز أخطأ، إنه تقبّل أنك بشر تخطئ وتتعلم، بدلاً من أن تجلد ذاتك على كل زلة، فحين تسامح نفسك، تُطلق سراح روحكِ من قيود الشعور بالذنب والخزي، وتبدئ عملية الشفاء والنمو.
أولى خطوات التسامح مع الذات هي الاعتراف بأن الكمال غير موجود وأن الخطأ جزء طبيعي من التجربة الإنسانية، اسأل نفسك: لو أن صديق مقرب ارتكبت نفس الخطأ الذي ارتكبتِه، كنت ستسارع إلى مواساته وتطمينه بدلًا من لومه؟ حان الوقت لتعامل نفسك بنفس هذه الرحمة، سامح نفسك على القرارات التي تندم عليها، على الفرص التي ظننت أنك أضعتها، وعلى نقاط الضعف التي تراها فيك. فكل تجربة مهما كانت مؤلمة تحمل معها درسًا يثريك وينضج شخصيتك.
تذكر دائمًا أن التسامح مع الذات هو أساس الصحة النفسية والتطور الذاتي، عندما تصفح عن نفسك، تزيد ثقتك بذاتك ويقوى احترامك لها، لن تعود حبيس لحرقة الصدر و المشاعر الثقيله و لوم الذات والتفكير المستمر بالأخطاء، بل ستركز طاقتك على التحسين والتقدم، مسامحة الذات تمنحك الحرية لتكون أنت، بكل ما فيك من نقص وجمال، وتفتح لك الباب لتنطلق في الحياة بخفة وأمل.
* التسامح مع الآخرين
لا شك أننا جميعًا تعرضنا للأذى من الآخرين بطريقة ما، سواء كان جرحًا ( مقصوداً أو غير مقصود) من أهل، أصدقاء، شريك حياة أو حتى شريك عمل من خيانة ثقة، تخلي عن المسئوليات، أو معاملة غير عادلة. التسامح مع الآخرين قد يكون تحديًا صعبًا، خاصة عندما يكون الجرح عميقًا. من الطبيعي أن نشعر بالغضب وخيبة الأمل، وربما نرغب في الرد بالمثل. لكن الحقيقة هي أن حمل هذا الغضب أشبه بشرب السم وانتظار أن يتأذى غيرك – فالسم يسري في داخلنا نحن، المسامحة للآخر لا تعني مطلقًا أننا نوافق على ما فعل أو ننسى الإساءة، بل تعني أننا نرفض أن تستمر تلك الإساءة في إيذائنا نفسيًا، نحن نسامح لنحرر أنفسنا من قبضة الماضي ونستعيد راحة بالنا.
إذا كنت ترغب بمسامحة شخص ما، فإليك خطوات عملية قد تساعدكِ في ذلك:
1. تفريغ الغضب والمشاعر السلبية بطريقة صحية: قبل أن تستطيع المسامحة، تحتاج للتعبير عمّا تشعر به من غضب وألم، حاول كتابة رسالة إلى الشخص الذي آذاك تعبّر فيها عن كل ما هو في صدرك من أفكار و مشاعر – دون أن ترسلها، الهدف هو ألا تظل حبيس لهذه المشاعر المكبوتة؛ لأن كبت الغضب قد يحولّه إلى حقد مزمن يؤذيكِ أنتِ في المقام الأول.
2. التعلم من الألم: اسأل نفسك ماذا تعلّمت من هذه التجربة الأليمة؟
3. تطوير المهارات النفسية والعاطفية أو المهارات الداخلية: مثل التعاطف والصبر وضبط النفس و التفهم
4. رسم حدود جديدة بعد التسامح: مسامحتك لشخصٍ ما لا تعني بالضرورة عودة الأمور لما كانت عليه قبل الأذى
قد يتطلب التسامح مع الآخرين وقتًا، خاصة في حالات الجروح العميقة، لا بأس في ذلك! خذ الوقت الذي تحتاجه واشعر بمشاعرك كاملة، لكن ابق متيقظاً لأثر بقائك في دور الضحية لوقت طويل، تذكر أنك بالمسامحة تستعيد قوتك المُهدره على الحزن، فالشخص الذي سامح من آذاه هو شخص قرر ألا يسيطر ذلك الأذى على بقية حياته، ستشعر مع الوقت بأن ثقلًا كبيرًا قد انزاح عن كاهلك، وأنك بتسامحك قد منحت نفسك الحرية والسلام، العلاقات الإنسانية بطبيعتها معقدة، والتسامح يساعدك على تنقية هذه العلاقات من سموم الحقد والضغينة، لتفسح المجال لعلاقات أكثر صحة ونضجًا في المستقبل.
* التسامح مع الله
قد يستغرب البعض من مفهوم التسامح مع الله: فنحن نعلم أن الله كامل الحكمة والرحمة ولا يظلم أحدًا، فكيف لنا أن “نسامح” الله وهو لم يخطئ في حقنا أصلاً؟ المقصود هنا ليس التسامح بمعنى العفو عن خطأ، بل التصالح مع الله ومع أقدارنا التي كتبها لنا، في لحظات الألم الشديد أو الفشل، قد يتسلل إلى قلوبنا – من حيث لا ندري – شيء من العتب على الله، ربما لا نقوله صراحة، لكننا نشعر به حين نتساءل بمرارة: “لماذا يا رب تسمح بهذا لي؟”. هذا الشعور باللوم المكبوت قد يسبب لنا انفصالًا روحيًا تدريجيًا عن الإيمان، فنفقد حلاوة الطمأنينة ونغرق في مرارة اليأس، بعض الناس قد تتملكهم هذه المشاعر لفترة طويلة فتهز إيمانهم تمامًا، فيبدؤون بالابتعاد عن الله وربما تساورهم أفكار تشكك في وجوده أو عدله.
إن إدراكنا لهذا الشعور الخفي هو الخطوة الأولى نحو الشفاء، التسامح مع الله يعني أن نعترف بأننا حملنا الله مسؤولية ما أصابنا من أقدار مؤلمة، ثم نقرر أن نتخلى عن هذا العتاب، وأن ما نمر به من شدائد ما هو إلا مكان تنقصنا به مهاره يجب أن نطورها و نتعلمها! عندما نلوم الله و القدر، فإننا في الواقع نحمّل أنفسنا عبئًا روحانيًا ثقيلًا ونحرمها السكينة، أما عندما نصفح عن أقدارنا، فإننا نفتح أبواب قلوبنا من جديد لنور الأمل.
كيف نبدأ بالتسامح مع الله؟ ابدأ بمصارحة نفسك بمشاعر الإحباط أو الغضب التي ربما وجهتها نحو الله دون وعي منك، قد يساعدك كتابة مشاعرك في خطاب موجه إلى الله، عبّر فيه عن ألمك وشعورك الداخلي فهو الأعلم بضعفك الإنساني، ثم بعد أن تخرج كل ما في قلبك من غضب وحزن، و أنك أسقطت الكثير من اللوم على الله لأنك ظننت أنه الله هو المُتسبب بذلك، اطلب الصفح من الله إن كنتِ شعرتِ نحوه بالغضب أو الشك، استعين بالدعاء: قل “اللهم أخرجني من حولي إلى حولك، و من عزمي إلى عزمك و من ضعفي إلى قوتك، و من ضيق اختياري إلى براح ارادتك" أو " اللهم أخرجني من حولي و قوتي إلى حولك و قوتك، و من ضيق أفقي إلى سعة أ فقك” كرر هذا الدعاء و استشعر انتقالك من الضيق إلى السعه.
إن التسامح مع قدر الله هو في جوهره مصافحة مع الحياة وقبول عميق لها، فعندما نصل إلى مرحلة نقول فيها: “رضيت يا رب، سامحت نفسي والآخرين ولن أحمل في قلبي إلّا الحب لك والثقة بك”، عندها فقط تستقيم روحنا ونستطيع أن نعيش الحياة بقلب خفيف مطمئن، هذا لا يعني أننا لن نحزن أو نتألم بعد ذلك لكن قلوبنا ستكون أكثر رسوخًا وثقة بأن لكل ألم معنى، ولكل محنة حكمة، وأن رحمة الله تحيط بنا.
في نهاية المطاف، نجد أن التسامح بكل صوره – مع النفس والآخرين ومع الله – هو طريقنا إلى حياة ذات جودة أعلى وسلام أعمق، عندما نسامح فإننا في الحقيقة نحرر أنفسنا: نتحرر من أسر الماضي وآلامه، ومن سموم الغضب والحقد والندم، التسامح ليس مجرد وسيلة لتحسين العلاقات مع الآخرين، بل هو أداة قوية أيضًا لتعزيز صحتنا النفسية والعيش بسلام داخلي، فعندما نمارس التسامح، نُلقي عن كاهلنا عبء المشاعر السلبية ونفتح الباب لحياة أكثر سعادة وتوازن ، إن احتضان قيم التسامح ينعكس إيجابًا على كل جانب من جوانب حياتنا، ينعش قلوبنا بمحبة لا مشروط لها، ويمنحنا عقلاً أكثر صفاءً وجسدًا أكثر صحة، ويخلق مناخًا من التفاهم والتعاطف من حولنا.
تذكر دائمًا المقولة الجميلة: “التسامح هو أن تهدي نفسك السلام”، سامح لتحصد سلامًا داخليًا لا يفنى، أنت تستحق هذا السلام فلا تتردد أن تمنحه لنفسك بدءًا من اليوم.
التعليقات
لا يوجد أي تعليقات لعرضها.
تسجيل الدخولمقالات أخرى

الخطوة الأولى نحو النجاح
الخطوة الأولى نحو النجاحكلنا نسعى للنجاح، لكن هل نعرف أن النجاح ليس مجرد حلم بعيد؟ إنه إنجاز يومي!يبدأ بشيء بسيط و هو " تعريفك للنجاح بالنسبة لك" فالنجاحات تختلف من شخص إلى شخص . في رحلتنا نحو النجاح
02/01/2025